أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 24، 2024

هويات هاربة.. قصة قصيرة


عرف منير كيف يتفادى المواقف المحرجة، فإذا ابتسم له شخص ما، أو صافحه بحرارة عرف أنه صديق قديم، وربما كان عزيزا جدا؛ يُظهر له إسوارة تحيط بمعصمه مكتوب عليها "يعاني من إلزهايمر".. استحسن الفكرة، وراح يطبقها مع كل شخص ثرثار، أو إذا أراد تجنب جدال عقيم، أو للتهرب من الدائنين ومن يراهم ثقال الظل..

تخيل يا أستاذ خليل يوم أمس اتصلت على الجريدة، ردت عليّ السكرتيرة ولم تعرف صوتي، قلت لها حوليني إلى رئيس التحرير، قالت إنه في اجتماع، وبعد الإلحاح قالت لي بغضب: أرجوك للمرة العاشرة أطلب منك ألا تتصل معنا!! شو اللي بصير؟ لماذا ينكروني؟ ويتهربون من مكالماتي! لماذا لم تعد الجريدة تنشر قصائدي ومقالاتي؟

كدت أن أصارحه بأنه لم يعد ذلك الشاعر المبهر، وأن قصائده لم تعد مفهومة، ومقالاته عبارة عن شطحات فكرية منفصلة عن الواقع، وأنّ النقاد بعد أن قرعوه مرارا وتكرارا صاروا يتجاهلونه.. لكني خشيت من ردة فعله، ولم أرغب بنكء جراحه، أو خدش مشاعره، فآثرت الصمت.

تأمل منير في الصورة المثبتة على صدر الصالون، وقد أدرك أنها صورته، أخرج من الدرج ألبوم صور قديم، لاحظ أن نفس الصور تتكرر، وأن شخصاً ما يظهر في أغلبها، على الأرجح هو أنا، قال في نفسه.. حدق في المرآة فرأى شخصا مختلفاً؛ شخصٌ هده التعب، وبان عليه الهرم، عيناه غائرتان، وجهه حزين وعابس، تحسّسَ براحتيه وجنتيه اللتان برزتا كنتوء عظمي، وتأمل حاجبيه الكثيفين وثم أمسك بلحيته البيضاء الكثة، عاد للوراء متراً فذُهل من جسده الهزيل وقد بدا كمن نجا من مجاعة، عاد للألبوم من جديد، الشخص الذي يظهر في تلك الصور وسيم، ممتلئ الوجه، حليق اللحية والشوارب، نضر البشرة تبدو عليه علامات الصحة والهيبة، مبتسم دائما.. لا يكفي أني نسيت اسمي، نسيتُ حتى ملامح وجهي! قال مخاطبا نفسه بتحسر.

سار طويلا في شوراع المدينة وطرقاتها الفرعية حتى أضناه التعب، كان كل ما يحتاجه معرفة عنوان سكنه، فقد تعب من المشي ومن السؤال، صار همه الوحيد أن يعود لبيته، ليتناول وجبة شهية، وحمّاما ساخنا، ثم ينام.

في موعد لا يخطؤه، صعد في قطار الثامنة صباحاً، وجلس قرب النافذة، وراح يراقب الشوارع والأشجار والناس والسيارات، بينما القطار يتحرك وعجلاته تدور بانتظام مصدرة صوتا موسيقيا متكررا ينسل إلى خلاياه، تذكر كيف  كانت الأيام الخوالي، أماكن كثيرة كانت شاهدة على قصته التي تتكرر بشكل شبه يومي.. والتي طالما سردها على مسمعي دون كلل، ودون أن ينسى كلمة واحدة.. كان يطمح أن يستحوذ على المدينة بأكملها، اعتقد أنه يستطيع تحريك كل شيء بأصابعه، وأنه سيصلح نظام الكون الظالم، وسيعيد الحق لأصحابه..

زرته ذات مساء، استقبلني بفتور، ثم انزوى إلى كنبة في زاوية الصالون، أشار إلى الحائط وقال بحماسة: تلك صورة زوجتي، ثم صمت للحظات وأضاف: ينتابني حيالها شعور غامض، شعور يغمره الحنين والحب والأسى. ثم أشار إلى صورة أخرى كانت في إطار خشبي بجانب التلفزيون وقال بصوت حزين: وهؤلاء هم أولادي، وأخذ يشير إلى بقية الصور المصفوفة فوق الكوميدينة وهو يقول بحيرة: صور كثيرة لأشخاص أدرك في أعماق نفسي أني أعرفهم، وأني مشتاق لهم... لكن أين هم الآن؟ لماذا لا يزورونني؟ لماذا تركوني وحيدا؟ هل اقترفت جرما بحقهم حتى نبذوني؟ أم أنها مجرد صور متخيلة لأناس لا أعرفهم، وأنا من الأساس وحيد وبلا زوجة ولا أهل؟ كنت صامتا ومصدوما بأسئلته، ثم قال بصوت خافت وبنبرة استفهام: هل هذا هو بيتي حقاً؟ أم أني دخلت بيت أحدهم بالخطأ؟

كنتُ سأقول له (وربما قلت لا أذكر) إن القطار الذي طالما تغنى به، توقف منذ زمن بعيد.. القطار الآتي من غزة، مرورا بقرية بتير هناك حيث تخترق سكة الحديد الوادي القابع بين جبلين تغطيهما غابات الصنوبر، وصولا إلى القدس، ثم صعودا إلى حيفا ويافا.. ذلك القطار توقف منذ النكبة التي حلت بالبلاد، بل إن البلاد ذاتها ضاعت، ولم يعد منها سوى ذكريات منير وقصصه الجميلة والمثيرة.. وأغلبها مختلق ومتخيل.. أظن أني حينها التزمت الصمت، واكتفيت بهز رأسي إعجابا واحتراما لذكرياته الحميمة..

في نهاية ذلك اللقاء، وكان الأخير بيننا، ابتسم بفرح مصطنع، وربما بسخرية، وراح يغني وهو يحرك يديه مثل قائد أوركسترا: لسه فاكر كان زمان.. كان زمان ..

أكثر من عانى منه زوجته أحلام، تحملته بصبر المؤمنين ويقين العشاق، ولطالما تشاجرت معه بسبب غيابه المتكرر والطويل عن البيت، خاصة وأن تبريراته لم تكن مقنعة، وجميع قصصه مفككة.. لكنها كانت تحس بصدق كلامه رغم تناقضاته الواضحة، هكذا مجرد إحساس؛ بيد أن أبنائه الذين انشغلوا به كثيرا في بدايات الأمر، ثم بدأوا يتعودون، وصل بهم الأمر حد عدم الاكتراث.. بقية معارفه كانوا يتناقلون عنه قصصا غريبة وبتحليلات متعددة؛ قالوا إنه يعاني من فقدان الذاكرة القريبة، وآخرون قالوا إنه يعاني من إلزهايمر، وغيرهم قال إنه يعاني من انفصام الشخصية، وبعضهم أكد أن حالته تسمى اضطراب الهوية المزمن، أو تعدد الشخصيات المركّب، أما ابن عمه قيس فقال إنه يعيش حالة توهم ويتخيل الأشياء والأحداث من حوله، بما يشبه الهلوسة، فيما أكد جاره حسين الذين طالما تناقش معه في أمور كثيرة أنه لا يعاني من أي مرض نفسي أو ذهني، هو مجرد فيلسوف حر يحاول التنكر من كل شيء، بما في ذلك تنكره لنفسه، حتى أنه يرفض حمل هويته في جيبه، ولا حتى في عقله..

بعد إلحاح من زوجته وأولاده وافق على زيارة طبيب نفسي مشهور، في البداية كان متكتما ومتحفظا، ولكنه بدءا من الجلسة الثانية صار شخصا آخر، انطلق لسانه، وصار يسرد القصة تلو الأخرى، ويسترسل في الشرح، ويشرّق ويغرّب، وأحيانا يهذي بكلمات غير مفهومة، وبصوت متحشرج كما لو أنه أتٍ من غياهب كابوس، يبكي بحرقة أحيانا، ثم يضحك بأعلى صوته.. تحير الدكتور فضل في تشخيص حالته، وفي أكثر من مرة كان يحس أنه مجرد إنسان يعاني الوحدة، وكل ما يريده مجرد الحديث، يريد شخصاً ما يسمعه، وهو مستعد لدفع كل المبالغ الممكنة لقاء كسر وحدته، والخروج من عزلته.. وأحيانا يقتنع بأنه لا يعاني من أي اضطراب معروف، وأنه شخص مثقف ويتلاعب بطبيبه..

لاحظ الطبيب أنه يستعين بعضلات بطنه في استخراج تلك الأصوات الغريبة، وكأنه يحاول تقيء شيئ ما لا يعرف ما هو.. ربما هو الأسف والندم.. ربما يحاول رد إهانة مؤذية تعرض لها في مطلع شبابه، أو يحاول مداواة جرح غائر، كان مثل العاشقة المخدوعة التي عجزت عن الانتقام، واستسلمت.

 ذات مساء، اجتمع عدد كبير من أصدقائه في سهرة نهاية الأسبوع بدعوة من خليل وفي منزله، الذي فاجأهم بإلقاء كومة أوراق على الطاولة، قال إن حفيد منير عثر عليها بالصدفة، بعضها وجدها في جيبه، وبعضها كانت في درج مكتبه.. على الفور تلقفوها، وكلما قرأ أحدهم قصاصة ظهرت على وجهه علامات الاستغراب والدهشة، فيمررها للآخر، والذي بدوره يندهش أكثر.. 

"أنا الآن في لحظة استفاقة، تنتابني مثل هذه اللحظات من حين إلى آخر، لا أعرف كيف تأتي، ولا متى تنتهي، يتيقط عقلي فجأة، وأستعيد جزءا من ذاكرة بعيدة، المهم أن أستغل اللحظة فأسارع لتدوين ملاحظاتي؛ أعرف أن اسمي منير، وأنني من قرية بيت نتيف قضاء القدس، وأني في الستينيات من عمري.. عدا ذلك لا أعرف شيئا، لكنّ في جيبي ورقة عليها جميع بياناتي: ديانتي، جنسيتي، تاريخ ميلادي، رقم الهوية، عنوان السكن، المهنة، الأرقام السرية لحسابي المصرفي وبطاقة الصراف الآلي، والباسوورد لبريدي الإلكتروني، ولصفحتي على فيسبوك وحساب الواتس أب، ورقم هاتفي الخلوي.. في الحقيقة لا أعرف ماذا تعني لي هذه البيانات، ولا مدى أهميتها.. بل إني أشعر أنها عبء عليّ، وأني سعيد بالتحرر منها.. لن أُخرج تلك الورقة التافهة، سأجرب أن أعيش بدونها".

"ما قيمة كل هذه المحددات اللعينة؟ هي مجرد قيود.. وأنا الآن بلا قيود، بوسعي الانطلاق في أي اتجاه، والركض بلا توقف، وبلا هدف، أشعر أني خفيف وأكاد أطير، وسعيد مثل عصفور استفاق للتو صبيحة يوم ربيعي، وإني على وشك الضحك دون سبب، ومستعد لقبول أي فكرة وتبني أية هوية، ولكن ما أهمية الهوية أو الفكرة نفسها، حتى لو تبنيتها أو اقتنعت بها، سأنسى كل شيء، وسأبدأ من جديد.."

"أنا شخص آخر، ربما يكون عدد شخصياتي بعدد سنوات عمري.. هل هذه علامة حكمة ونضوج؟ أم هو مرض ذهني؟".

"أعرف بل ومتأكد أن لي زوجة محبة ووفية، وأبناء وأهل وأقارب وأصدقاء ومعارف وجيران، ومن المفترض أني أحبهم ويحبوني.. ربما لي ابنة مقربة ربيتها على مهل، وانتظرتُ على أحر من الجمر حفلة تخرجها من الجامعة، وربما لي ابن يحتاجني الآن.. لا أتذكرهم، لو رأيتهم لن أعرفهم، أنا حتى لا أعرف من أنا، أحتاج أن أستخرج ورقة من جيبي لأقرأ اسمي.. كم أنا حزين.. وما يفطر قلبي أني فقدت كل ذكرياتي.. شطبتها متعمدا.. أنا تائه، وبائس".

قبل يومين، عاد مبكرا، كانت الشمس تهم بإقفال نهار حار، دخل البيت بخطوات سريعة وواثقة، واتجه على الفور إلى الصالون، لبرهة شعر وكأنه يدخل منزلا جديدا، غرفة الجلوس جميلة ونظيفة، كنبات وثيرة مخملية اللون، وثمة قطة لطيفة نائمة على إحداها، وعلى الحائط لوحة زيتية لسيدة حزينة، ثُبتت محل صورته، لم يغضب ولم يستغرب حتى، لم يكن في البيت سوى حفيده من ابنته، فنادى عليه:

-      تعال يا فريد.. واحضر لي معك كوب ماء بارد.. ريقي ناشف.

-      نعم يا جدي، تفضل..

-      أين أمك؟

لم يجب فريد، وحاول إداره وجهه..

-      طيب أين جدتك أحلام؟ مضى وقت طويل ولم أرها!!

لم يجب فريد، وتصنع انشغاله بالنظر إلى المطبخ، ثم اتجه نحو الثلاجة وأعاد إغلاق بابها من جديد.

-      يا ابني لماذا لا ترد! هل أصبت بالطرش فجأة؟

-      لا يا جدي، لكنها المرة العشرين وأنت تسألني الأسئلة نفسها منذ الصباح!

-      كيف يعني المرة العشرين! ومنذ الصباح! وأنا للتو دخلت المنزل، فمنذ الصباح وأنا أتجول في شوارع المدينة!

-      يا جدي، أنت لم تغادر فراشك منذ سنتين. وقبل ذلك كل قصصك عن القطارات، ومحطة القطارات، والمترو.. هذه ربما رأيتها في أحد الأفلام، لأنه لا يوجد في كل بلدنا قطار واحد.. أصلاً لا توجد سكة حديد..

صُعق منير، وارتسمت على وجه أكبر علامة استغراب في حياته، وقد بدا مندهشا وغير مصدق.. وكأنه تلقى للتو خبرا فاجعا.. لكن الخبر الصاعق سيأتيه الآن:

-      وأحب أن أذكرك أن جدتي، والتي هي زوجتك توفيت قبل أن أولد، يعني قبل عشر سنوات على الأقل..

بكسل طالبٍ سيقدّم امتحانا بعد ساعة وقد يئس من إمكانية نجاحه، تردد في النزول من سريره.. نظر من النافذة، كانت أضواء الشوارع ما تزال مشتعلة وثمة غيوم تحوم في سماء المدينة وتنذر بزخات من مطرٍ خفيف لعله يغسل ما خلفه ليل طويل.. أغلق النافذة بعد أن سرت في بدنه قشعريرة برد الصباح، عاد إلى فراشه منسلا مثل عاشق مخذول، كانت كومة الأدوية مكانها على المنضدة، وبجوارها كأس ماء نصف ممتلئ، ومنفضة تكدست فيها عشرات أقماع السجائر.. تهيأ له أن في خلفية المشهد تُعزف موسيقى تصويرية حزينة.  

نادى على زوجته بصوت مشوب بالرجاء: يا أحلام.. يا أحلام.. ثم على أبنائه: يا منى، يا سامر.. يا فريد.. ثم على الجيران.. لم يرد أحد.. لم يسمع سوى رجع الصدى.. أين ذهب الجميع؟ لماذا يختفون فجأة حين أحتاجهم؟ تساءل بحيرة وقلق.. راحت تلك الموسيقى الحزينة، وساد محلها صمت ثقيل.. يتخلله صفير رياح تنفذ من طرف الشباك.. طال انتظاره وهو يحدق في سقف الغرفة حينا، وفي النافذة حينا، حتى فُتح الباب بهدوء، التفت نحوه بترقب ولهفة من ينتظر الحافلة، فإذا بأحلام تدخل بكامل زينتها، كانت ترتدي فستانا من الساتان الشفاف بلون المشمش، شعرها الكستنائي منسدل على كتفيها وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة غامضة.. رفعت طرف البطانية وانسلت بجانبه بهدوء، بحنيّة وحنان وافر فردت ذراعها الأيمن فوق صدره، فاحتضنها على الفور بكل قوته.. لم ينبسا بحرف، كان يهم بمعاتبتها، والبوح لها بأشواقه وحنينه وخوفه.. لكنه آثر الصمت والاستسلام لبهاء اللحظة، وتقديرا لحميمتها.. وشيئا فشيئا أخذت حرارة جسديهما تخفت، أغمضا عينيهما ببطء لذيذ، وراحا في سبات عميق..


أبريل 22، 2024

لماذا توحشت إسرائيل الآن أكثر من أي وقت مضى؟

 

تزعم إسرائيل أن لديها "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، وهي مقولة تصلح للسخرية فقط، ذلك لأن إسرائيل نفسها مشروع إمبريالي قائم على العدوان والتوسع والعنصرية، وجيشها يمارس البطش والتوحش منذ تأسيسه، وهو متفرغ للتنكيل بالفلسطينيين، وانتهاك حقوقهم الإنسانية.

وعلى مدى سنوات الاحتلال الطويلة والبشعة كان جيش الاحتلال يقتل ويقصف ويهدم بلا رحمة، بوتائر متباينة، تقل حينا وتشتد أحيانا، وفقا لتعليمات وسياسات محددة، ويمكن القول أن آلة بطشه كانت منضبطة إلى حد ما؛ فمثلا عمليات الاغتيال كانت تستهدف أشخاصا بعينهم، وكذلك الاعتقالات، عمليات اقتحام البيوت كانت تتم بصحبة مختار المنطقة وتحاول مراعاة المحددات الاجتماعية، وحتى هدم البيوت يُنفذ بعد التبليغ وإعطاء فرصة للاعتراض أمام المحاكم، قمع المظاهرات بالهراوات، ثم صار بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز، وفي الاجتياحات يستهدف الجيش مواقع محددة سواء بالقصف أو بالاقتحام، وعلى الحواجز كان يجري إذلال المواطنين بالانتظار الطويل، أو بإرجاعهم، أو باعتقال أحدهم.. ومع كل هذه المحددات إلا أن هذه الإجراءات تعتبر انتهاكا لحقوق الإنسان ومخالفة للقوانين الدولية، وهي قطعا غير مقبولة، وتبرر مقاومتها بكل الوسائل..

إلى حد ما كانت إسرائيل تحاول مراعاة القانون، وتأخذ بالحسبان وجود صحافة ورقابة ورأي عام محلي وعالمي؛ فمثلا كانت تقتل الفدائيين الذين ينفذون عمليات ضدها، وتعتقل من نجا، بما في ذلك عمليات شهيرة وكبيرة مثل "السافوي"، و"عملية دلال المغربي"، و"الدبويا".. وغيرها، وفي العام 1986، اختطفت مجموعة من الجبهة الشعبية الباص 300 وعلى أبواب دير البلح، أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على الباص وأنهت العملية، وقتلت منفذيها، واعتقلت أحدهم، لكنها زعمت أنهم جميعا قُتلوا خلال الاشتباك، إلا أن صورة للفدائي ظهرت وهو مقيد اليدين فجّرت فضيحة في الأوساط الإسرائيلية ظلت تتفاعل لسنوات طويلة، وتم توجيه انتقادات لاذعة للشاباك بأنهم تورطوا بإعدام مواطن كان معتقلا بين أيديهم..

وفي الانتفاضة الأولى طالب رابين جيشه بتكسير أطراف الفلسطينيين، ولكن بعيدا عن الكاميرات، وقد أحدثت صورة تكسير يدي مواطن في نابلس ضجة كبرى وهزت الضمير العالمي، وظلت تتردد في وسائل الإعلام لفترة طويلة..

اليوم، كل شيء تغير، ولم تعد هناك أية محددات ولا محاذير على سلوك الجيش، وقد أُطلقت يديه بالكامل لفعل كل شيء، مهما بلغ مستوى إجرامه وتوحشه..

في السجون الإسرائيلية ومنذ العام 1967 بلغ  شهداء الحركة الأسيرة (236) شهيدا، أغلبهم نتيجة الإهمال الطبي وسوء ظروف الاعتقال، والقليل منهم استشهد بالضرب.. اليوم ومنذ 7 أكتوبر استشهد نحو 30 أسيرا نتيجة الضرب المبرح، كما تم سلب الأسرى كافة حقوقهم المكتسبة، ويتم التنكيل بهم بصورة بالغة في القسوة والوحشية، وبدرجة غير مسبوقة.

في الضفة الغربية تستغل إسرائيل التغطية الإعلامية على حرب غزة، وتقوم بمصادرة الأراضي وتوسعة الاستيطان، وإطلاق يد المستوطنين لممارسة إرهابهم ضد القرى، كما زادت وتيرة الاعتقال حتى اقترب عدد المعتقلين من العشرة آلاف معتقل، فيما قتلت نحو 500 فلسطيني، وهو رقم غير مسبوق.

أما في غزة، فهناك الجنون والإجرام وبأبشع صوره، فقد قتل الجيش حتى الآن نحو 35 ألف مواطن (منهم 14 ألف طفل)، فيما تجاوز عدد الجرحى الثمانين ألفا، أغلبهم بإصابات بليغة وإعاقات دائمة، وتم هدم نحو 80% من البيوت والمنشآت والبنية التحتية، وتشريد نحو مليوني مواطن، والجديد في هذا الإجرام ما يقوم به الجنود من مباهاة بأفعالهم، وتصوير جرائمهم وانتهاكاتهم، وسرقتهم للبيوت، وعرضها علانية على وسائل التواصل.. الجديد أيضا عمليات الإذلال العلنية للمواطنين، ممن يتم اقتيادهم وتعريتهم وتعذيبهم، بما في ذلك ما تتعرض له النساء من تنكيل وتحرش وإهانة (وهناك شهادات عن عمليات اغتصاب وتعرية). والجديد أيضا عمليات التجويع والتعطيش وقطع كافة الإمدادات الإنسانية الأساسية، والجديد أيضا عمليات قصف ومحاصرة واقتحام المستشفيات، وقصف المدارس ومراكز الإيواء، وتنفيذ المجازر الجماعية، وقد تم اكتشاف عشرات المقابر الجماعية، وعمليات سرقة أعضاء بشرية..

في تموز 2002 اغتالت إسرائيل القائد القسامي صلاح شحادة، بقصف منزله بطائرة F16، مما تسبب باستشهاد 15 مدني معه، منهم طفل، وعلى الفور استنكر الرئيس الأمريكي بوش العملية وأدانها.. اليوم قتلت إسرائيل أزيد من 14 ألف طفل، وما زالت أمريكا تعتبر ذلك دفاعا عن النفس! وما زالت تدعم إسرائيل وتمدها بالسلاح والمال.

السؤال المطروح: ما الذي تغير على إسرائيل؟ هل توحشت أكثر، وفقدت آخر ذرة عقل لديها؟ أم أنها أساسا متوحشة، وبلا عقل، والآن بدأ يتكشف وجهها الحقيقي؟ (راجع مقالتي: توحش الصراع، الأيام 8،2،2016).

لماذا، وكيف حظيت إسرائيل بكل هذا الدعم الأمريكي والأوروبي؟ وهذا الصمت والتواطؤ الدولي؟! لدرجة أنها لم تعد تعبأ بالصحافة؛ بل إنها قتلت 135 صحافيا! ولم تعد تهتم بالمنظمات الدولية؛ بل إنها قتلت أزيد من مائتي موظف يعمل في الوكالة وغيرها من المنظمات الدولية! ولم تعد تهتم لمجلس الأمن، سيما وأن أمريكا استخدمت الفيتو خمس مرات خلال العدوان! ولم تعد تهتم بالمعارضة الداخلية، ليس لأنها موحدة ضد الفلسطينيين، بل لأنها قبل ذلك أنهت كل وجود لما يمكن اعتباره يسار إسرائيلي، وقوى معتدلة، وأصوات عقلانية.  

لم تصل إسرائيل إلى هذا المستوى من العنف والبطش والتقتيل والتدمير طوال العقود السبعة المنصرمة، لا في النكبة، ولا في النكسة، ولا في الانتفاضتين الأولى والثانية، ولا في حروبها الخمسة على غزة.. هي تسوق ما تفعله إعلاميا على أنه دفاع عن النفس، أو لفرض عقوبات جماعية ضد المدنيين لأنهم يحتضنون المقاومة، أو للانتقام من هجمات 7 أكتوبر، أو لاستعادة قوتها الردعية وهيبتها العسكرية.. وكل هذا غير صحيح..

صحيح أنها تنتقم وبلا رحمة، لكن ما تفعله أكثر بكثير من الانتقام، واستعادة الهيبة.. ما تفعله جزء أصيل من عقليتها الصهيونية، ومن طبيعتها العدوانية.. كانت سابقا تضبط نفسها لاعتبارات سياسية وإعلامية وقانونية، وخشية من ردود الأفعال، وتحسبا لأسوأ الاحتمالات، لكنها لم تتوقف يوما عن إجرامها، صحيح أن تغيرات نوعية طرأت على سياساتها واقتضت منها تغيير إستراتيجياتها، وبالتالي تبني مقاربات أمنية وسياسية جديدة ومختلفة، تمثلت ذروتها في هيمنة اليمين على مقدرات الدولة والمجتمع، لكنها كانت دوما تمشي بوتيرة متصاعدة، وضمن مخطط مدروس، وكانت تهيئ الظروف لمثل هذا اليوم، وكانت تنتظر الفرصة السانحة التي توفر لها الدعم الأمريكي والدولي..

كانت تنتظر الذريعة القوية لإطلاق كامل قوتها مرة واحدة. وهذا ما حصل..

أبريل 17، 2024

عِـش كما أنت

 "كل ما نفعله في حياتنا اليومية غير مهم، ولكن من المهم أن نفعله"؛ مقولة منسوبة لغاندي وأجدها صحيحة وواقعية، فلو تأملت ما تفعله كل يوم بشكل روتيني ودققت في التفاصيل الصغيرة لحياتك ربما تجد أغلبها إن لم يكن كلها عادية، أو أقل من عادية، وربما تافهة، لكن مجموعها تساوي يومك، وأيامك، وبالتالي تساوي حياتك بأسرها، بمعنى آخر هذه هي الحياة، وعليك أن تحياها.. لا يعني هذا أن الحياة عبثية، وبلا جدوى ولا غاية؛ إذن، ما العمل؟

توقف أولاً عن البحث عن السعادة.. مهما حاولت فلن تصل؛ عقلك وجيناتك ترفض المكوث طويلا في جنة السعادة، لا تستطيع تحملها سوى لحظات قصيرة.. كما لا تستطيع المكوث في دائرة الحزن لأمد طويل، فمهما كان جرحك بليغا وحزنك عميقا، ومهما كانت فرحتك عظيمة ستعمل هرموناتك على التعافي مع الوقت، وسيعيدك عقلك المبرمج جينيا إلى حالة التوازن.. السعادة تكمن في الطريق أثناء مسيرك نحوها، لكنك حين تصل سيخيب ظنك، لذا دع الطريق طويلا واجعله ممتعا، بالأحلام والتأمل والصبر.. حينها ستنال الرضا وستتصالح مع ذاتك، وستنعم بالسكينة..  

أخرج من دائرة الانتظار؛ أنت الآن تعيش حالة انتظار دائمة ومزمنة، تعتقد أن واقعك الحالي مؤقت وعارض، وأن الأمور ستتغير وستتحسن، ستهبط عليك الثروة، ستتخلص من كرشك، ستنال ترقية، سيرحل جارك المزعج.. وغالبا ما تربط قراراتك بمواقيت معينة، ستتوقف عن التدخين مع بداية رمضان، ستبدأ بمزاولة الرياضة مع أول الربيع، ستفتح مشروعك الخاص في مطلع العام المقبل.. في الصيف سيأتي التغيير لأن الشتاء ثقيل وممل، في الليل سأقرأ الرواية لأنني في النهار منشغل، بعد أن يكبر أطفالي سأتفرغ لهواياتي.. في الواقع لن يتغير شيء، ستظل حياتك على نفس المنوال، وكل ما في الأمر أنك أجلت كل شيء لموعد لن يأتِ..

ثم تحرر من الفقاعة التي وجدت نفسك محشورا فيها منذ لحظة ولادتك، والتي تغلفها مجموعة من الأفكار والمحددات والموروثات الثقافية والدينية والاجتماعية وتعتقد أنها الحقيقة المطلقة، وتدافع عنها بعصبية.. تذكر أن كل ذلك تم حشوه في دماغك دون إرادتك، وأنك تلقيته دون مقاومة ودون تفكير.. فكر بفقاعات الآخرين، ولا تأخذ فقاعتك وفقاعات غيرك على محمل الجد.. الحياة أبسط من ذلك بكثير..

كي تحيا، وتنال الرضا وشيئا من السعادة ليس بالضرورة أن تكون شخصاً مميزا، ويُشار له بالبنان.. ليس شرطا أن تكون خارق الذكاء، أو مخترعا، أو خبيرا إستراتيجيا.. يكفي أن تحفظ جدول الضرب، وتعرف كيف تدير أمورك الصغيرة.. ليس شرطا أن تكون بروسلي، أو رونالدو، أو الشيف رمزي.. تجنب المشاكل، واستمتع بمشاهدة فريقك المفضل، ويكفي أن تعرف كيف تقلي بيضتين وتعد إبريقا من الشاي وكوباً من القهوة.. ليس شرطا أن تكون مهندسا، أو طبيبا، أو عالم فضاء.. المهم ألا تقبل بالبطالة، وكل المهن محترمة. ليس شرطا أن تكون ذو تاريخ نضالي طويل، وصاحب تجربة ممتدة، وأسيرا سابقا، ومقاتلا شرسا، ومحللا سياسيا.. كن إنسانا أولا، ولا تلقِ بالنفايات في الشارع، واحترم قواعد المرور، وادفع ضرائبك.. وهذه الوطنية الحقة..

ليس شرطا أن تكون كاتبا مرموقا وشاعرا فذا.. عبر عن مشاعرك وعن رأيك بأبسط الكلمات.. هذا أقرب للقلب وأكثر صدقا.. المهم لا ترتكب أخطاء إملائية فاضحة..

من حقك، ومن واجبك تجاه نفسك أن تكون شخصا مميزا، وناجحا، وطموحك أن تغدو مشهورا بل وشخصا خارقا طموح مشروع وطبيعي ومحمود.. ولكن إذا عشت حياتك وأنت تحاول ذلك، وحملتها فوق طاقتك توقع أن تُصاب بالخيبة، وأن تصل نهاية عمرك فتكتشف أنك أضعت حياتك هباء، وأنك خسرت الكثير.. اجعل هدفك من الحياة أن تحيا وتستمتع وحسب..

إقبل بشكلك وبوزنك وبلونك واشكر الله على نعمه، وتذكر أنك المحظوط من بين ملايين الحيوانات المنوية التي نجحت بالوصول إلى البويضة، بل أنت نتاج سلسلة تفاعلات لا نهائية بدأت قبل مليارات السنين، وفي أمكنة موغلة في البعد، واجتازت ما لا حصر له من التحديات والصعاب، فاحمد الله أنك لم تُخلق ضفدعا أو طحلبا في مستنقع آسن، وتذكر أن تعيش على الكوكب الوحيد الصالح للحياة من بين مليارات الكواكب..

لا تحمل نفسك فوق طاقتها، فأنت مجرد إنسان، ولا تلبس لباس الفضيلة فمن حقك أن تخطئ وأن تجرب وأن تنحرف وأن تفشل وأن تضعف وأن تخاف.. ولكن لا تظلم نفسك والآخرين ولا تسيء لأحد.. اختر نمط الحياة الذي يعجبك، ولست مضطرا لتبرير مواقفك، ولست مجبرا على إقناع الآخرين بأفكارك، ولن تنال محبة كل الناس مهما فعلت.. المهم ألا تؤذي الناس ولا تخرق القوانين ولا تتعدى على البيئة..

كل ثروات الدنيا لا تعادل دفء البيت، ولا عناق الشريك، ولا تقبيل يدي أمك، ولا ضحكة طفلك، ولا نومك السريع دون قلق..

هي حياة واحدة، وفرصة ثمينة منحها لك الخالق فلا تهدرها، كن كما أنت، كن إنساناً وكفى..

أبريل 03، 2024

عن العنف الثوري

 

لا حاجة هنا للغوص عميقا في تاريخ الحركات الثورية، ومبررات وجودها، لنبدأ بخمسينيات القرن الماضي، حيث شهد العالم اندلاع العديد من الثورات، في عموم أمريكا اللاتينية وأفريقيا وشرق آسيا، والتي تردد صداها في المنطقة العربية.. كانت أغلب تلك الثورات في مواجهة المستعمر ومن أجل الحرية والاستقلال..

شهدت البلدان العربية، سواء التي تحررت بثورات شعبية، أم تلك التي نالت استقلالها كنتاج للحرب العالمية الثانية مرحلة سياسية سميت بالمد الثوري، والذي تصدرته الحركات القومية واليسارية.. وكانت مطالبها تتلخص في الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والكرامة والحريات العامة وحقوق المواطنة..

ما يجمع تلك الثورات (الأممية والعربية) سمتان، الأولى: أنَّ مطالبها وأهدافها محقة وعادلة ومشروعة، وهذا الذي تأسست عليه شرعياتها، وبها نالت حضورها الجماهيري.. الثانية: أنها لجأت إلى أسلوب العنف الثوري، سواء في مواجهة قوى الاستعمار، أم لمواجهة نظم الاستبداد والفساد.. وما يبرر "عنفها" قسوة وضراوة المستعمر المحتل، الذي لم يكتفِ بنهب الخيرات والموارد، بل عمد إلى استعباد الشعوب بأبشع وأفظع الجرائم وأكثرها وحشية.. وأيضا قسوة وتسلط النظم الديكتاتورية، التي قمعت شعوبها وزجت بهم في السجون، وامتهنت كرامة الناس، واحتكرت السلطة، واستأثرت بخيرات البلاد..

وقبل أن نستكشف ما حدث لتلك الثورات فيما بعد، لنضيف إليها الحركات الثورية الإسلامية؛ أي الجماعات الجهادية والتي شهدت بداية الثمانينيات انطلاقتها وانتشارها في ربوع العالم، لنتعرف بعد ذلك على السمات الإضافية التي تجمعها كلها.

قبل عام 1980 كان عدد المنظمات الجهادية لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وخلال عقد الثمانينات تضاعف العدد ثلاثة مرات، ومع أواسط التسعينات نما العدد إلى نحو ستة وعشرون، وفي العقدين الماضيين صار العدد بالعشرات.

بدأت تلك الجماعات كحركات سياسية اجتماعية تعاني القهر، وتكابد الظلم، وتبحث عن فرصتها في التعبير عن ذاتها.. ولكن مع إضطهادها، وخنق صوتها، وعجزها عن تحقيق أهدافها بالطرق السلمية، ومع تفشي الإستبداد والقمع السلطوي، وتوالي الهزائم والإنكسارات، تولّدَ العنف المضاد، واكتملت دورة العنف السياسي؛ فبذرة العنف بدأت في أحضان النظم الاستبدادية، وأحيانا بتشجيع منها، ونَمَتْ مع الخيبات والهزائم، وكبرت مع الأزمات السياسية والاجتماعية، وقد رعتها دول وجماعات وقيادات تحمل مشروعا أمميا صار يعرف باسم مشروع الإسلام السياسي.

ما يجمع الجماعات الجهادية مع القوى الثورية العلمانية والقومية أنها كانت مراحلها الأولى نقية، وطاهرة.. القوى القومية والعلمانية التي تسلمت السلطة تحولت إلى نظم بوليسية قمعية، وعمَّ فيها الفساد، وأفقرت بلدانها، وفشلت في تقديم أي نموذج رشيد للحكم.. وهذا ما حدث أيضا للجماعات الجهادية، سواء استلمت دولة، أو سيطرت على منطقة، غرقت في منظومة العنف والتسلط والفساد، وتوجه عنفها إلى الداخل.. وفي الحالتين كل الشعارات والأهداف والقيم العليا التي رُفعت في البدايات بقيت في حدود الخطابة وتم التخلي عنها، وصارت وسيلة وغطاء لفرض السيطرة على الناس بالتهديد والتخوين والتكفير.. وتبين سريعا مدى هشاشة تلك الشعارات في أول امتحان عملي لها، ذلك لأنها كانت دوغمائية وعمومية وسطحية وضبابية، ولا تتضمن تفصيلات ولا آليات عمل، ولا ترتكز على أسس علمية وعملية.

أما التحول إلى الديكتاتورية، فلأنها ما أن تفرض سلطتها على بقعة ما حتى تبدأ بتكوين طبقة حاكمة (على الأغلب أوليغارشية)، ويصبح لهذه الطبقة مصالح خاصة، وامتيازات، ويصبح همها الأساس البقاء في السلطة، وحماية مصالحها.

أما أتباع تلك الحركات (بشقيها العلماني والديني) فقد كانوا عقائديين متزمتين، أو مثاليين طوباويين يحملون مشروعا خياليا في معالمه الأساسية والعامة، أو مغفلون ضلّلوا الطريق، أو متسرعون لتحقيق أهدافهم السياسية والاجتماعية، أو مندفعون للحد الأقصى بردود أفعالهم على عنف الدولة وعلى الظلم الموجه ضدهم، وهم في نفس الوقت مغامرون تراودهم أحلام النصر السريع، وقد ضمت أشخاصا مكبوتين، ومقهورين، وآخرون مصابون بداء الإغتراب، وعصابيون لم يستطيعوا التعايش مع واقعهم والانسجام مع خط الحضارة المتصاعد.

لكن أخطر ما ميزها هو ازدراء مكانة الإنسان؛ فهي لا تتنكر لقيم المواطنة وحقوق الإنسان وحسب (بالممارسة الفعلية)، بل هي في الأساس تنظر للإنسان بصفته مجرد أداة لخدمة أهداف الثورة أو الجماعة، وبالتالي لا قيمة لحياته، ولا لكرامته، ولا لمستقبله، هو منذور للموت (فداء الوطن، والثورة، والمقاومة، والزعيم، والدين..)، هو وقود للحروب، ومن واجبه التضحية بنفسه وبأولاده وبمستقبله.. وتحت هذه الشعارات تم سحق الناس، وتحطيم آدميتهم، وأحلامهم، واقتيادهم للمعارك وللمغامرات العسكرية.

في العقود الماضية تراجع حضور الحركات القومية والعلمانية، وكادت أن تختفي، وبقيت الجماعات الإسلامية متصدرة الساحة العربية والدولية، وهنا يمكن القول أنه بالإضافة للسمات التي أشرنا إليها (التي يشترك فيها الجميع تقريبا)، ثمة سمات أخرى خاصة بجماعات الإسلام السياسي، وهي:

تتبنى فكرا سلفيا متزمتا، وترفض فكرة الحداثة والدولة المدنية، ولا تقر بالديمقراطية والتعددية وتعتبرها بضاعة غربية، وتعادي كل ما له علاقة بالتنوير والتقدمية من أفكار وفلسفات وفنون وآداب، وتصادر الحريات الخاصة والعامة.

وهذه القوى في حقيقتها تمثل مشاريع تفكيكية للدولة الوطنية المعاصرة؛ فهي لا تؤمن بالأوطان، ولا تعترف بالحدود، ولا بالأعراف والقوانين الدولية (إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها)، الوطن بالنسبة بها "مسواك"، والعَلم مجرد خرقة بالية، والولاء للدين (أو للجماعة بتعبير أدق)، والانتماء للأيديولوجية الحزبية. ولديها مشروع أممي يتجاوز حدود الجغرافيا والقارات، ويقوم فكر هذا المشروع على مبدأ الولاء والبراء ومعاداة كل ما لا يشبهها، والتصادم مع كل من يختلف معها.

الهدف الحقيقي لمعظمها هو الوصول للسلطة، إما بالإنقلاب، أو العمل الدعوي السلمي، أو بالعنف والتفجير، والسلطة التي يسعون لها ستكون في النهاية حكما ثيوقراطيا استبداديا ليس فيه مكانة لحرية الرأي، ولا حق الاختلاف، ولا للتعددية وتداول السلطة.

في شعاراتها وخطابها الإعلامي جمعت بين "الدين"، و"فلسطين"، وبهذا الجمع نالت الحسنيين، واستحوذت على قلوب الجماهير، وجسدت هذا الجمع بمصطلحات "المقاومة"، و"محور المقاومة".. ولم تعد المقاومة أداة ووسيلة بل صارت الهدف بحد ذاته، ومبرر ووجودها، ومنه تستمد شرعيتها وشعبيتها، لذا لجأت إلى تقديس المقاومة، وتحريم نقدها، أو مساءلتها، وجعلتها فوق كل القيم والاعتبارات. وباسم المقاومة حولت عنفها الثوري الذي كان موجها للعدو إلى المجتمع نفسه..

هذا ما حدث مؤخرا في غزة، واليمن، ولبنان، وسورية، والعراق، وأفغانستان، وسيناء، وليبيا، والصومال، وكل منطقة سيطروا عليها باسم الدين، وباسم المقاومة.

مارس 26، 2024

مشان الله يا غزة يالله

 

مثل أي مواطن فلسطيني، شاركتُ في مئات المظاهرات والمسيرات الشعبية والاعتصامات على مدى سنوات طويلة، وكنتُ في كل مرة أثناء المسير أنتبه إلى أعداد المشاركين، ونوعياتهم، وخلفياتهم الثقافية وانتماءاتهم الحزبية، وكان يمكن ملاحظة ذلك من خلال معرفة العديد من المشاركين بشكل شخصي، ومن خلال المظهر والأزياء والهتافات والشعارات واليافطات المحمولة وأسباب خروج المظاهرة، واتجاهات سيرها.. وأحاول استخلاص العبر وفهم الظاهرة من ناحية سيسيولجية وسياسية وثقافية (سأنشر قريبا دراسة عن هذا الموضوع).. المهم ما يعنيني هنا، وما أود التركيز عليه موضوع الهتافات.

ومن خلال خبرتي المتواضعة يمكنني القول وبثقة أن الهتافات لا تعكس بالضرورة رأي واتجاهات المشاركين في المظاهرة نفسها، خاصة حينما تكون حاشدة وبأعداد كبيرة.. فما يحدث غالبا هو إمساك شخص ما بالميكروفون والبدء بالهتاف، ليردد من هم حوله في الدائرة الضيقة نفس الهتاف، وفي حالات نادرة جدا يردد معه جميع المشاركين؛ أي حينما يكون الهتاف جامعا وتوحيديا ومتفق عليه (مثل هتافات الوحدة الوطنية، أو بالروح بالدم نفديك يا فلسطين..).

لن أتوسع هنا بالحديث عن "الهتافات"، وسأكتفي بالإشارة إلى أنها في الغالب موجهة ويُراد منها إيصال رسائل معينة، وطبعا بحسب الشخص أو المجموعة الصغيرة التي تهتف.. وما يهمنا هنا هتاف "مشان الله يا غزة يالله".

برز هذا الهتاف في المظاهرات التي كانت تجري في الضفة الغربية خلال العقد الماضي، وأكثر ما برز كان في باحات المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة من شهر رمضان، حيث الأعداد الغفيرة من المصلين، وبسبب غياب أي سلطة أمنية هناك، فتقوم العديد من الاتجاهات السياسية والحزبية باستغلال قدسية المكان وتجييره لصالح هتافها السياسي. وهنا أول رسالة سياسية والمتمثلة بتماهي قدسية المكان مع الشعار، ليقول مطلقوه أن جماهير القدس ورواد الأقصى يقولون كذا، ويريدون كذا.. يحبون فلان، ويعادون علان..

وفي أيار 2021، وبعد أن شهدت القدس حراكا شعبيا سلميا وبوادر هبة جماهيرية سرعان ما انتقلت إلى عموم الضفة الغربية، وكانت مرشحة ومهيأة أن تتحول إلى انتفاضة، وفي هذه اللحظة بالذات أطلقت مجموعات من مؤيدي وأبناء حماس هتاف "مشان الله يا غزة يالله".. فكانت الاستجابة بإطلاق الصواريخ من غزة، لتتحول بوادر الانتفاضة في الضفة إلى حرب عدوانية على غزة.

ماذا يعني هتاف "مشان الله يا غزة يالله"؟ يعني أن جماهير الضفة تستنجد بغزة، والتي ستنجدها بالصواريخ.. وهنا قد تبدو الصورة مثالية، وتكامل في الأدوار النضالية.. لكن هذا غير صحيح، ليس تشكيكا بنوايا المستغيث والمنقذ، بل لأن النتائج أثببت ذلك بكل وضوح.

لماذا لا تستنجد القدس بالخليل؟ أو تستنجد نابلس بجنين؟ لماذا غزة بالذات؟

بعيدا عن الكلام الإنشائي بأننا شعب واحد وموحد.. فهذا مؤكد، وحيث بالفعل كلما تعرضت مدينة أو مخيم في الضفة ستجد عونها وسندها في المناطق المجاورة، فالمجتمع كله حاضنة دافئة للمقاومين بغض النظر عن التقسيمات المناطقية والانتماءات الفصائلية.. لكن في الهتاف رسائل سياسية مشفرة.. مفادها أن العون الحقيقي والوحيد للضفة فقط في غزة، وبمعنى أدق لدى حماس، لأنها وحدها من يمثل ويجسد المقاومة.. وهذه الرسالة الضمنية الثانية للهتاف.

الرسالة الثالثة للهتاف مفادها أن غزة جاهزة دوما للمشاركة والإسناد، وبمعنى أدق وأصدق جاهزة للتضحية.. والتضحية هنا ستكون دائما باهظة الثمن، وتكلف دماء وأرواحا وممتلكات.. ويبدو أن العقل الباطني لدى الكثيرين قد تبرمج على استسهال تضحيات غزة، وكأنَّ أهل غزة منذورون للحروب، ويجوز التضحية بهم، فهم ليسو كسائر البشر، يحبون الشهادة (الموت)، ومستعدون للتحمل ودفع الأكلاف والأثمان مهما بلغت.. وهذه الفلسفة تجدها في الخطابات الإنشائية وقصائد النثر وتحليلات المثقفين المشتبكين، بالذات في رام الله وعمّان، ببساطة ووضوح ستجدها لدى أغلب من هم خارج غزة.. وهي فلسفة غير أخلاقية، ولا إنسانية، ولا علاقة لها بالوطنية..

والدليل أنها فلسفة مزايدة وتنظير أنّ الجماهير (في الأردن والضفة) التي طالما هتفت "مشان الله يا غزة يالله" عندما وقعت غزة في محنتها وتعرضت لأبشع حملة إبادة.. تخلت عنها، وخذلتها، ولا أقصد بالخذلان هو الامتناع عن التظاهرات وأشكال التضامن الأخرى، بل المقصود أن هؤلاء لم يروا من غزة سوى صور المقاومين وهم يتصدون للدبابات، واكتفوا بها.. ولم يروا معاناة الناس، وبؤسهم، ونزوحهم، وجوعهم، وخوفهم، وأطفالهم، وجثثهم الممزقة، وبيوتهم المهدمة، ومستقبلهم الذي ضاع.. ما زالوا يعتقدون أن المقاومين وحدهم من يضحي.. ووحدهم الأبطال.. وبالتالي هم يتظاهرون نصرة للمقاومة، لا نصرة للشعب المكلوم.. تأييدا للمقاتلين وليس للناس المدنيين.. وهكذا نزعوا صفة الضحية عن الشعب، كما نزعوا عنه صفة البطولة.. أنظر إلى هتافات المتظاهرين في عمّان ورام الله، وإلى المنشورات المتداولة على جروبات الواتس أب وغيرها ستجد كل ما يؤيد كلامي..

صحيح أم موقف السلطة الوطنية، وفتح لم يرتقِ للمستوى المطلوب، وربما كان مخيبا للآمال، ولا يتناسب مع مستوى الحدث، لكنه على الأقل متناغم مع موقفها الداعي لرفض الحرب، والمطالبة بإيقاف العدوان منذ اليوم الأول، لإدراكها أن هذه الحرب لا قبل للشعب الفلسطيني بها، وفوق طاقتهم، وقد تؤدي بهم إلى النهاية المدوية، لأن المقاومة والنضال ضد الاحتلال تختلف بأدواتها وأساليبها وخطابها عنها في زمن الحرب وفي ظل عدوان شرس بهذا الحجم.. ومع ذلك كان عليها أن تفعل الكثير، ولا مبرر لتقصيرها..

لكن حَمَلة هتاف "مشان الله يا غزة يالله"، من الإخوان المسلمين وغيرهم، هم أول من خذل غزة، وكانوا راضون ومتقبلون لكل خسائرها الباهظة.. ولأن الإخوان أكبر وأقوى جماعة سياسية منظمة في الأردن، كان ممكنا لهم فعل الكثير، بشكل أكثر فعالية وجدوى، لكنهم اكتفوا بنفس الدور الذي مارسوه أثناء ثورات الربيع العربي: امتصاص نقمة الشارع، وتحييد النظام، وحمايته، وصرف النظر عن سياساته وممارساته، إضافة إلى الدعاية الحزبية، أي استغلال مأساة غزة لزيادة شعبية الإخوان.

وأيضا كل جماعات الإسلام الجهادي من داعش والنصرة والقاعدة وأنصار بيت المقدس وجند الشام وطالبان وبوكوحرام والعشرات غيرهم ممن لم يتركوا ساحة "للجهاد" إلا وشاركوا فيها.. فجأة جميعهم اختفوا!!

والحقيقة لا مفاجأة في الموضوع..

عبد الغني سلامه